فلَبِئْسَ ابْنُ العشيرةِ

رافقت العلّامة المجدّد غرم الله الشعلاني – زيّن الله الآداب ببقائه – في إحدى رحلاته، فأخذ يحدثني عن جُهيّلة هذا الزمن. فتمهلت شيخي – جعلني فداءه، صاحب الصحّة والحقيقة، موهوب القصد والعقيدة – فسألته: من تقصد؟ فأجابني: هم قومٌ للجهل أقدم، وللغباء أفهم، يُرهبُ منهم السقم، وتخاف منهم النقم. يهرفون بما لايعرفون. لا تقوم للحق لديهم قائمة، ولا تأخذهم في الباطل أيّة لائمة. هجومٌ على من يخالفهم بالتيار، كانتصارٍ على البربر والتتار. يغرقون في الوحل الذميم، حتى يجد أحدهم خللاً قديم. فيصبح الجميع لخلل ناعق، وبلسانه ناطق، وكأنه الدليل الساحق الماحق. فهؤلاء السذّج، لايعترفون بدحض الحجج، ويحيكون المكائد في ظلام اللجّج. تكويهم استقلالية الأفكار، وتسمع عويلهم بالأسحار. عشّاق نظرية المؤامرة، أهل المراوغة والمناورة. عند الأمير هم دفوف، وأمام الحق حمقى جُلوف. كبيرهم خانع، وصغيرهم خاضع. عالة هذا الزمان، يطعنون الذمّة، ويقتلون الهمّة، حتى يصبح الطابع العام الهُراء السام. لا دواء، لا دواء، فالعزلة أهون من الجلاء. السكوت، السكوت، دعّ الحق يموت. عليك بنفسك يا فتى، فالأمر قد تفاقم، والوعي قد تساقم. لم يعد هناك مجالٌ للنقاش والمساجلة، قد تفنى وتهلك بلا مجادلة. دعهم و انطلق.

عن عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ”. رواه البخاري.

أذُمّ إلى هذا الزّمانِ أُهَيْلَهُ

هاتفني قريبٌ لي، يستفسر عن مستقبل الهندسة والطب، وأيّهم أفضل من العائد المادي والاجتماعي. أعادني سؤاله لسنين عجاف ولّت وانقضت. تلك الحيرة، وكأن العالم لا يسع إلا للهندسة والطب. ابتسمت وأنا أجاوب على أسئلته الحيرى، ولم أشأ أن أضايقه مما سيلاقيه.

من أشهر نظريات علم السلوكيات داخل الشركات “Organization Behavior” نظرية وضع الأهداف “Goal Settings Theory” التي تنص على: تحديد الأهداف، سيزيد إنتاجية الشركة. تعمل هذه النظرية بشكل فعّال وصحي داخل الشركات، لكنها مشوهة عندما يُراد تطبيقها على الأطفال. بشكل لاواعي، يتبع الأهالي هذه النظرية، يضعون أهداف بعيدة المدى، ويحفزون الأطفال لها. فيعمل النشء جاهداً في إرضاء أهله وتحقيقها. لكونه طفل، يجيء الحافز كعامل ضغط نفسي لا كدافع داخلي للتقدم. مما يدفعهم لبذل المستحيل حتى لا تكون العواقب وخيمة! تقول المعالجة النفسية المختصة بالأطفال Amy Morin: “عندما يشعر الطفل بأن أي إخفاق في حل الفروض والاختبارات سيدمر مستقبله، حتماً سيصاب بالضغط النفسي ويكتسب صفات سيئة”.*

هناك مجالات عديدة يجد الشخص فيها العائد المادي المنتظر، بعيداً عن وهم الهندسة والطب. لا أعلم سبب الحصر هل هو لضيق أفق الأهل، أم بسبب الخيارات القليلة التي توفرت بتلك الحقبة. لكني ملّم جداً بأن الوضع الحالي تغير، وأن هناك خيارات جميلة مطروحة يجد فيها الشخص شغفه، كالبرمجة والمالية والتسويق والمحاماة وغيرها. ومن تميّز سيحصل على المردود المالي الذي يبحث عنه، بعيداّ عن صنم الهندسة والطب.

أخيراً، أشرف الخلق سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام لم يكن الأغنى مالاً في مكة، ولكنه حُظيّ بمكانته عندما عُرف أنه الصادق الأمين. الشاهد، نحن في زمن وكأن المتنبي يصفه: “أذُمّ إلى هذا الزّمانِ أُهَيْلَهُ” تختبئ الصفات الحميدة، وتبرز الماديّات، الأكثر رقماً، الأعلى مكانة. تقييم المجتمع للشخص قائم على رصيده البنكي ومسكنه ومسفره. وللأسف، هذا المفهوم بدأ يتجذّر بشكل عميق في الأجيال الصاعدة مما نشاهده في برامج التواصل الاجتماعي. طغّت الماديات والشكليات على الفضائل والحمائد. يجب زرع عدم العبء بنظرة المجتمع داخل النشء، وتنشئته على أسس صحيحة، وقيم مجتمعية صالحة تناسب الفرد والأسرة.

لندع أطفالنا يستمتعوا بحياتهم وطبيعتهم بعيداً عن الحصر وكلام الناس بالتوجيه بالشكل الصحيح.

الاقتصاد والوضع الراهن لعمل المرأة

يقوم مبدأ الاقتصاد منذ القدم على مفهوم المقايضة. يقايض الشخص سلعته بسلعة ما يريد اقتناءها. الحديث عن المقايضة طويل، وتاريخها عريض، ولهذا لن أتطرق لكيفية تطوّر المقايضة حتى انتهت كعملات ورقية، لكني بصدد الحديث عن الاقتصاد بمفهومه الحالي ومشاكله.

حركة الاقتصاد الداخلي للدولة

يقايض السكان وقتهم للشركات من أجل المال – الراتب – والشركات تشتري وقتهم من أجل استخدامهم في صناعة المنتجات والخدمات. يزداد دخل السكان بسبب مقايضتهم لوقتهم، فبالتالي، تزداد قوتهم الشرائية لمنتجات و خدمات الشركات، فتنتعش أرباح الشركات وهكذا، دواليك. يحصل الخلل عندما يعزف السكان عن العمل أو تستبدلهم الشركات بعمال خارج البلد. لعهد قريب، شقّيّ الخلل موجودان وبشكل ظاهر بالسعودية! لأسباب سيكولوجية واجتماعية، يطول الحديث عن مسبباتها، عزف بعض السكان عن العمل في القطاع الخاص. بالمقابل، لم تعبأْ الشركات لمسؤوليتها الاجتماعية في تأهيل السكان وتطويرهم لازدهار الدولة صناعياً واعتمدت على العمالة ذات الأجر المنخفض. استمرت عجلة التنمية، ومع زيادة أفراد المجتمع وقلة الفرص الحكومية، حاول المواطنون مقايضة وقتهم بالعمل في القطاع الخاص، لكنهم صدموا بتدني الأجور و ضعف العائد المادي، فظهرت للسطح مشكلة العطالة.

أضحت مشكلة العطالة هاجساً لديوان الخدمة المدنية ومكتب العمل، فشّح الفرص الوظيفية الحكومية وتدنّي أجور القطاع الخاص، أبرز المعضلات التي يجب القضاء عليها. كون القطاع العام متخّم، فتم إنشاء برنامج خجول يدعى بنقاط السعودة. الحلول الذي قدمها هذا البرنامج كانت مؤقتة وهشة! سمح للشركات برميّ الفتات للسكان متناسياً أنه العنصر الرئيس في تعزيز اقتصاد أي دولة. لم يكن هناك بعد نظر لمواضيع طويلة الأمد، كالاستدامة والبحث والتطوير والابتكار التي لن تقوم أبداً على أجانب بل على السكان. يٌشكر برنامج أرامكو للتصحيح اكتفاء (IKTVA) الذي تفطّن لمشكلة برنامج السعودة. الآن، يجب إرفاق مستندات تثبت رواتب السعوديين ومناصبهم بشكل شهري للحصول على عقود معها أو لضمان استمرارية العمل بالإضافة لعدد من النقاط التصحيحية الرئيسية الأخرى. وكما تم إعلان عن ذات البرنامج سيتم تطبيقه في المعاملات و المناقصات الحكومية.

بدأت الشركة تعي بخطورة الموقف، الأعمال ستتوقف إن لم تفي بالشروط، إن لم تستطع، فغيرك يستطيع. الحل الأولي كان في استبدال الأجانب بالمرأة السعودية كون عدد العرض مهول، فبالتالي رواتبهم أدنى من الرجال (قاعدة الاقتصاد للعرض: كلما زاد العرض انخفض السعر). لكنها خطوة مؤقتة حتى يغيّر رجال الأعمال – طوعاّ أو إجباراّ – من قوائهم المالية لموازنة صحيحة بين المصروفات والمداخيل.

صحيح رواتب المرأة متدنية حالياً، لكن مع زيادة الطلب لهم و إثبات قدرتهم و مسؤوليتهم بالعمل، ستتساوى الأجور و الفرص بين الذكور والإناث. كما أن المستقبل سيكون مزدهر لنا كدولة إن شاء الله، يجب علينا شكر أخواننا الأجانب الذين ساعدونا وكانوا عوناً لنا. نحفظ لهم الجميل و الود والامتنان. فشكراً لكم.

في شركتنا صعلوك!

وردُّت العَقيق – أو كما يحب أهلها نطقها بالعِقيق – قاصداً إمام الزمان, معجزة البيان, مبدد الإفك و البهتان, النابغة غرم الله الشعلاني – قدّس الله سره و فك أسره – فحدثنا عن فلان عن فلان, حتى عدّ من الرواة عشر, فقال: “جاءت أميمة الفهمية لابنها جابر بن ثابت – أحد أشهر أعلام الصعاليك بالجاهلية – فقالت له: يا بني إن إخوتك يأتيني بشيء إن راحوا. فقال لها: سآتيك الليلة بشيء. فجاءها يحمل على إبطه جراب به أفاعٍ. فلما ألقى جرابه لها, هربت من منزلها, فسألنها النسوة ما بك؟ ردت عليهم: تأبط جابرٌ شراً.

كمن صالب بوقاحته الحجر, وجاور بقباحته القمر, فتعاطى فعقر, ثم أدبر واستكبر, و قال أنا ربكم الأكبر. نجد الصعلكة كطالب جامعي حقير, وجارٍ فكره ضرير, وموظف بنفسه غرير. هذا الموظف للمدير متزلف, وعلى الأكتاف متسلق, وللثناء متعلق. إبليس الرجيم له قرين, وكيد النساء أمامه مسكين, ويكيد للمسن و الجنين. بائع الضمير لا يُرجى شفاؤه, ولا يطيب سقامه.

فالحذر الحذر من شرٍ لم يٌستتر, أدمغه بالأدلة, ولا تترك الدعاء عليه بالأهلة. دارِ خطواتك و تفطّن عثراتك وانشر الوعي بين الأفراد وألجمه عند الحاضر والباد, حتى يعود صعلوكاً عند العباد. فالشر في نفسه متغلغل, وبالأماني متعلل, ولخوارم المروءة محلل. فلا تأخذك به لومة لائم, جمّع الأحزاب وغلّق الأبواب و أمام الـ CEO اقضّوا عليه بضربة رجل واحد, حتى يضيع دمه بين الأقسام.

لمشاركة الكاتب – أدام الله تأييده – قصصكم عن صعاليك عملكم:
Osaidgasem@gmail.com

  • مصدر عالم الزمان قاهر الإنس و الجان الوكيبيديا أو الكيسبيديا – أيهما أقرب -.

سيرة ذاتية:

هدير المحرك العتيق بعد أن شاب به الزمن حتى بدأ يفكر بالتقاعد, رياح الشتاء تصّرّ زجاج السيارة المتهالك ليئن ويشكي الحال. تلك المتعة في تجاوز الحفر التي تمتاز بها الدمام في طريق الدوام الرتيب. سلك الـ AUX المهترئ يندب حظه ويذكر أمجاده عندما كان آخر صيحات التقنية. يأتي السلوان بصوت طلال يصدّح في الأرجاء:

صابرين ويقولوا الصبر جميل
صابرين وطريق الصبر طويل
شايلين في قلوبنا الجرح
ناسيين الهنا والفرح
نستني الأمل سنين
زينا زي العاشقين
صابرين  صابرين

تراءت أمامي نقطة الضبط الأمني فقمت بتجهيز أوراقي و ترتيب أجوبتي استعداداً للسؤال اليومي: “جِداوي؟ وش جابك هينا ؟ تترك جدة أم الرخى و الشدة؟ تدري جدة مخيسة؟ معصوووب!!” أعتقد بعد مرور أكثر من العام والنصف جمعت الأجوبة لشتّى أنواع الأسئلة المتكررة. ولا أغفل عن إني سبرت أغوار نفسياتهم و أبحرت في عقولهم و حتى أخرج من مأزق مزاجية رجل الضبط هذا وأنا البعيد كل البعد عن علم النفس . لفت انتباهي ظرف بالٍ لجامعة البترول مزوي كأنه مملوء بالحياء لا يريد أن ينظر إليه أحد! التقطت أوراقي من الدرج الداخلي سلمته الأوراق داعياً و مناجياً الله أن يجنبني أي حديث إضافي معه. أخرجت الظرف بعد فسح مروري, تأملته بعجب من أين أتيت؟ من أنت؟ كان كما يدعي أنه يحمل كروت دعوة لحضور حفل التخرج لم تستخدم.

” تدخل البترول تصير وزير ” .. ” البترول أقوى جامعة في الشرق الأوسط ” .. ” تتخرج تلقى ست وظائف سيده ” ملايين من العبارات مرقت أمامي رسمت عليّ إبتسامة تهكمية مريرة. الأصدقاء أيام السكن, المياجر و الفاينلز, الـ Average – متأكد الآفرج كان ومازال السبب الرئيسي للوفاة الدماغية -, المشاريع, التدريب, بحث التخرج, وحفل التخرج. لا تعرف الذكرى من أين تهاجمك. تدخل الجامعة وأنت تبحث عن صنع نفسك فتخرج منها بوثيقة تزعم أنك مهندس – قد الدنيا -. تغرق بالمعمعه منذ البداية تبحث عن نفسك بداخلها, لكنك تنجو منها بأمراض الاكتئاب و الاحتراق الداخلي وربما تصاب بثنائية القطبية لكنك لن تجد نفسك أبداً

تأتي صخرة الواقع لتهمش رأسك فأنت لن تصبح وزيراً و أن الوظائف الست ليست إلا وهم. تفقد الوثيقة بريقها و “قد الدنيا” تزيدك اكتئاباً و قوقعة فتصبح محصوراً بين أربع جدران. تنتهي أيام السكن و تفترق الطرق, الأصدقاء يسقطون الواحد تلو الآخر. تسقط كل معاقل التعظيم للبترول بداخلك و تندب حظك العاثر و تلوم من عشّمك بالوزيرية يوماً ما. تحاول عبثاً البحث عن ذاتك في مرحلة الخواء هذه ولكنك لن تجد إلا خواءً أعظم و سواداً أدهم. يهزك نص و تدمرك أغنية.

وترحل .. صرختي .. تذبل
في وادي لا صدى يوصل .. ولا باقي انين

زمان الصمت يا عمر الحزن والشكوى
يا خطوة ما غدت تقوى .. على الخطوة
على هم السنين .. وترحل صرختي وتذبل

تلمح بصيص الأمل مع أول بارقة, تتجهز لها وتستعد للغربة مجدداً. يفترق طريقك أيضاً لكنك أكثر استعداداً. تعلمت أن الحياة ليست وردية و أن ملامح الطريق دائماً مجهولة. تأخذك الحياة من خريج هندسة مكتئب عاطل لمهندس مكتئب حالي. ولعلها تقذف عليك وردة سوداء فتجعلك مشرف مهندسين مكتئب وإن ابتسمت حتى تظهر لك أنيابها فتصبح مدير عمليات مكتئب. وبين هذا وذاك ستبحث عن ذاتك.

بسم الله الرحمن الرحيم

استفتاحاً باسمه واستنجاحاً ببركته. والحمد لله المبتدئ بالنعم, المنفرد بالقِدم. مدونتي – أطال الله بقاء كاتبها ومدّ مدّته وأدام كفايته وسعادته – هذه محاولات إيصال أفكار عديدة, لنقاشات مديدة, لعلها وُئدت شهيدة, مع غفير الهرج و المرج, أصحاب المنطلق العرج, بتكرار ميتٍ بلا وهج, يهرب المنطق منهم بحثاً عن الفرج.

إن شكوت العصر و أحكامه, وذممت صروفه وأيامه, فهذه المدونة متنفسي و مقامي, معتزلي ومشفى سقامي, من ندب الزمن, بعد استشراء العفن, حتى بات الكفن, أبهج من معاشرة سقام الفكر و البدن.

و أنا أستعين بعصمة الله و توفيقه أبدأ.