هدير المحرك العتيق بعد أن شاب به الزمن حتى بدأ يفكر بالتقاعد, رياح الشتاء تصّرّ زجاج السيارة المتهالك ليئن ويشكي الحال. تلك المتعة في تجاوز الحفر التي تمتاز بها الدمام في طريق الدوام الرتيب. سلك الـ AUX المهترئ يندب حظه ويذكر أمجاده عندما كان آخر صيحات التقنية. يأتي السلوان بصوت طلال يصدّح في الأرجاء:
صابرين ويقولوا الصبر جميل
صابرين وطريق الصبر طويل
شايلين في قلوبنا الجرح
ناسيين الهنا والفرح
نستني الأمل سنين
زينا زي العاشقين
صابرين صابرين
تراءت أمامي نقطة الضبط الأمني فقمت بتجهيز أوراقي و ترتيب أجوبتي استعداداً للسؤال اليومي: “جِداوي؟ وش جابك هينا ؟ تترك جدة أم الرخى و الشدة؟ تدري جدة مخيسة؟ معصوووب!!” أعتقد بعد مرور أكثر من العام والنصف جمعت الأجوبة لشتّى أنواع الأسئلة المتكررة. ولا أغفل عن إني سبرت أغوار نفسياتهم و أبحرت في عقولهم و حتى أخرج من مأزق مزاجية رجل الضبط هذا وأنا البعيد كل البعد عن علم النفس . لفت انتباهي ظرف بالٍ لجامعة البترول مزوي كأنه مملوء بالحياء لا يريد أن ينظر إليه أحد! التقطت أوراقي من الدرج الداخلي سلمته الأوراق داعياً و مناجياً الله أن يجنبني أي حديث إضافي معه. أخرجت الظرف بعد فسح مروري, تأملته بعجب من أين أتيت؟ من أنت؟ كان كما يدعي أنه يحمل كروت دعوة لحضور حفل التخرج لم تستخدم.
” تدخل البترول تصير وزير ” .. ” البترول أقوى جامعة في الشرق الأوسط ” .. ” تتخرج تلقى ست وظائف سيده ” ملايين من العبارات مرقت أمامي رسمت عليّ إبتسامة تهكمية مريرة. الأصدقاء أيام السكن, المياجر و الفاينلز, الـ Average – متأكد الآفرج كان ومازال السبب الرئيسي للوفاة الدماغية -, المشاريع, التدريب, بحث التخرج, وحفل التخرج. لا تعرف الذكرى من أين تهاجمك. تدخل الجامعة وأنت تبحث عن صنع نفسك فتخرج منها بوثيقة تزعم أنك مهندس – قد الدنيا -. تغرق بالمعمعه منذ البداية تبحث عن نفسك بداخلها, لكنك تنجو منها بأمراض الاكتئاب و الاحتراق الداخلي وربما تصاب بثنائية القطبية لكنك لن تجد نفسك أبداً
تأتي صخرة الواقع لتهمش رأسك فأنت لن تصبح وزيراً و أن الوظائف الست ليست إلا وهم. تفقد الوثيقة بريقها و “قد الدنيا” تزيدك اكتئاباً و قوقعة فتصبح محصوراً بين أربع جدران. تنتهي أيام السكن و تفترق الطرق, الأصدقاء يسقطون الواحد تلو الآخر. تسقط كل معاقل التعظيم للبترول بداخلك و تندب حظك العاثر و تلوم من عشّمك بالوزيرية يوماً ما. تحاول عبثاً البحث عن ذاتك في مرحلة الخواء هذه ولكنك لن تجد إلا خواءً أعظم و سواداً أدهم. يهزك نص و تدمرك أغنية.
وترحل .. صرختي .. تذبل
في وادي لا صدى يوصل .. ولا باقي انين
زمان الصمت يا عمر الحزن والشكوى
يا خطوة ما غدت تقوى .. على الخطوة
على هم السنين .. وترحل صرختي وتذبل
تلمح بصيص الأمل مع أول بارقة, تتجهز لها وتستعد للغربة مجدداً. يفترق طريقك أيضاً لكنك أكثر استعداداً. تعلمت أن الحياة ليست وردية و أن ملامح الطريق دائماً مجهولة. تأخذك الحياة من خريج هندسة مكتئب عاطل لمهندس مكتئب حالي. ولعلها تقذف عليك وردة سوداء فتجعلك مشرف مهندسين مكتئب وإن ابتسمت حتى تظهر لك أنيابها فتصبح مدير عمليات مكتئب. وبين هذا وذاك ستبحث عن ذاتك.